تعرَف قومية الدوغون بأنها من الشعوب الأصلية التي تقطن تلال منطقة الهضبة الوسطى في غرب إفريقيا -جنوب نهر النيجر- منذ آلاف السنين، ويحكي الكثير من الأنثروبولوجيين وبعض العلماء الأمريكيين -مثل كارل ساغان- أساطير كثيرة عنهم كمعرفتهم الدقيقة بالفَلَك وأنهم يرون أنفسهم أبناء كائنات فضائية حطت في الأرض منذ آلاف السنين، ولهم كهوف كثيرة عليها رسوم تعود لآلاف السنين، ويُعَدّ تراثهم في صناعة الوجوه الخشبية وطقوس الرقص بالأقنعة ومعالمهم المعمارية من التراث الذي يخشى اندثاره بحسب لائحة اليونسكو، ويتراوح عددهم بين 300 – 400 ألف، ويتوزعون على عشرات القبائل/ العشائر في ولاية موبتي في مالي وشمال بوركينافاسو، علماً أن معظم هذه القبائل تعتنق الإسلام وتتمسك كذلك بعادات وثنية تاريخية لديها.
تنتشر قومية الدوغون في المنطقة الوسطى من مالي وصولاً إلى جنوب شرق البلاد -على طول ولاية موبتي- وتمتد أراضيها عَبْر ولاية موبتي في مالي وشمال بوركينا فاسو، وتتنازع القومية السيطرة على أراضي الرعي مع قومية الفولاني التي تحيط بأراضيها من جهة الشمال والغرب في مالي وعلى الحدود مع النيجر -إقليم تيلابيري- وقد أدت سنوات الجفاف منذ عام 2015 إلى نزاعات مسلحة بشكل متقطع بين أراضي الدوغون والفولاني.
الواقع الأمني المحيط بالدوغون!
مع ظهور الجماعات الجهادية في المنطقة تصاعدت عملياتها ضد قرى الدوغون بدءاً من عام 2016 ، إلا أنها لم تكن تتجاوز 5- 10 هجمات سنوياً، إلا أنها تصاعدت بشكل واضح منذ حزيران/ يونيو 2023 وما زالت تتعرض للهجمات عام 2024.
عقدت كتيبة تحرير ماسينا الجهادية المبايِعة لجبهة نصرة الإسلام والمسلمين منتصف عام 2020 اتفاقاً مع شيوخ قبائل الدوغون يقضي بدفع زكاة المواشي للكتيبة وعدم التعاون مع القوات المالية والميليشيات الموالية لها ضدهم، مقابل حماية القبائل من قُطّاع الطرق ومنع تنظيم داعش من التمدد في أراضيهم والتحكيم بينهم وبين قبائل الفولاني في النزاعات البَيْنيّة.
استمر الاتفاق سارياً حتى حزيران/ يونيو 2023 حيث ضغطت ميليشيا دان نا إمباساغو الموالية للجيش على زعيم إحدى القرى في محيط بلدة بوادية بهدف تصوير أفراد الكتيبة الذين يتجولون في القرية ويتسلّمون زكاة المواشي، وهو ما حصل لاحقاً، مما أدى لاعتقال بعضهم من قِبل الجيش المالي وتسليمهم إلى ميليشيا فاغنر الذين قاموا بتعذيبهم ثم تصفيتهم.
في الشهر ذاته أبلغت الكتيبة شيوخ قبائل الدوغون بإلغاء الاتفاق، وأنها ستسيطر على أراضيهم بقوة السلاح، وقد تلا ذلك الهجوم بمئات العناصر في آب/ أغسطس 2023 على القرية وأعدموا ميدانيّاً نحو 20 رجلاً من أهالي القرية.
تؤكد المعلومات أن كتيبة تحرير ماسينا التابعة لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين في مالي تتولى تنفيذ هجمات متصاعدة ضدّ قرى القومية منذ آذار/ مارس 2023، كما نفذت أواخر كانون الثاني/ يناير ومطلع شباط/ فبراير 2024 ثلاث هجمات واسعة ضد مناطق مهمة في أراضي الدوغون في مناطق تابعة لولاية موبتي، وهي: سيغو، وبوادية، ودونفو دوغون.
اقتادت الحركة مئات المواشي من قريتَيْ سيسابوغو، وبوادية في أرض الدوغون، وأَحرقت مواقع تخزين الحبوب فيهما، تلا ذلك هجوم على ثكنة لميليشيا "دان نا إمباساغو" من قومية الدوغون في بلدة دونفونو دوغون Sonfounou Dogon وقُتِل من الميليشيا 3 عناصر، وأصيب ما لا يقل عن 10 آخرين وصُودِرت المواشي وعشرات الدراجات النارية في البلدة.
عمليات الكتائب.. السياق والانعكاسات!
يعود ظهور الجماعات الجهادية في المنطقة إلى عام 2015 وهو متوافق مع موجات الجفاف المتتالية التي ضربت وسط وغرب دول الساحل منذ عام 2015 حيث كان الجفاف واحدًا من أسباب تصاعُد الصراع على أراضي الرعي بين القوميات المتعددة في مالي.
تُعَدّ قبائل عديدة من قومية الفولاني نصيراً تقليدياً لكتيبة تحرير ماسينا في حين أن قبائل الدوغون توالي الحكومة المالية، وقد نفذت الميليشيات المحلية التابعة للدوغون عام 2019 مجزرتين بحق قومية الفولاني، وصل مجموع ضحاياها إلى 270 مدنيّاً مما صعّد من انضمام الفولانيين إلى التنظيمات الجهادية في المنطقة -جبهة نصرة الإسلام بدرجة كبرى، ثم داعش بدرجة أقل- بهدف الانتقام من الدوغون وداعميهم من الحكومة المالية وفاغنر لاحقاً.
دفعت وحشية تنظيم داعش ضد الدوغون شيوخ القبائل لعقد اتفاق مع جبهة نصرة الإسلام مقابل حمايتهم عام 2020، إلا أن انتهاك الاتفاق وتسليم عدد من عناصر الكتيبة لفاغنر كان سبباً لكتيبة تحرير ماسينا للعودة إلى العمل العسكري الموسَّع في المنطقة.
من المؤكد أن العمليات الأخيرة تأتي في إطار توسيع نفوذ الكتيبة في وجه كلٍّ من الحكومة الماليّة والميليشيات المحلية وميليشيات فاغنر، إلى جانب سعيها لقطع الطريق على تنظيم الدولة الذي يحاول التمدد في المنطقة ذاتها من الجهة الشرقية، ومن ناحية أخرى فإن هذه الهجمات ستوفر لكتيبة تحرير ماسينا المئات -وربما الآلاف- من رؤوس المواشي والدراجات النارية التي تُعَدّ أداة التنقل الأساسيّة في المنطقة، وبالتالي مضاعفة موارد دخلها في المنطقة.
من المرجَّح أن تستمر العمليات في المستقبل القريب، إلا أنها لن تكون مانعاً من عقد اتفاق آخر بين شيوخ قبائل الدوغون وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، مع تعديل صيغة السيطرة من التعاون ودفع الزكاة إلى وضع الجماعة يدها على المنطقة ذاتها تحسُّباً لأي اتفاق محتمل بين القومية والحكومة المالية التي تدعم ميليشيا محلية من القومية مهمتها مواجهة الجماعات الجهادية في المنطقة خاصة تنظيم كتيبة تحرير ماسينا.