شكَّل سقوط نظام الأسد في سوريا ضربة مؤلمة لروسيا، لا تقتصر على سمعتها ومكانتها الدولية فحَسْبُ، وإنما بما يحمله الأمر من تهديد وُجوديّ لجميع نفوذها في الشرق الأوسط وإفريقيا إذا ما فقدت موسكو قواعدها في الساحل السوري.
ينشر مركز دراسات الأمن الإفريقيترجمة مقال نشرته مجلة فورين بوليسييناقش فيه صموئيل راماني Samuel Ramani معنى أن يخسر الكرملين نفوذه في سوريا، وكيف تستطيع القوات الروسية تأمين الإمداد اللوجستي لقواعدها في إفريقيا؟ وهل البدائل عن القواعد في سوريا ممكنة؟
نصّ الترجمة
لقد وجّهت الإطاحة برئيس النظام السوري بشار الأسد ضربة ساحقة لطموحات روسيا في أن تصبح قوة عالمية عظمى، وبسبب التوسع العسكري المفرط في حرب أوكرانيا (الاستنزاف الروسي في حرب أوكرانيا) والفشل الاستخباراتي في سوريا قبل الهجوم السريع الذي شنته الفصائل المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام، لم تتمكن روسيا من الدفاع عن أقوى حلفائها في الشرق الأوسط.
تواجه روسيا خطر فقدان قاعدتها البحرية في طرطوس على ساحل البحر الأبيض المتوسط في سوريا، فضلاً عن قاعدة حميميم الجوية التي أنشأتها بالتزامن مع تدخُّلها العسكري عام 2015 لصالح الأسد، وقد كشفت صور الأقمار الصناعية أن روسيا أَجْلَتْ أعداداً كبيرة من القوات والمعدات العسكرية من قواعدها السورية وانسحبت من شتى المناطق التي كانت تنتشر فيها داخل البلاد، ليقتصر تواجُد القوات الروسية نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2024 على قاعدة حميميم الجوية وميناء طرطوس، وتشير الاستخبارات الأوكرانية إلى أن روسيا تخطط لسحب قواتها بالكامل بحلول شباط/ فبراير2025.
إن هذه الانتكاسات لا تتسبب في تشويه إرث السياسة الخارجية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتُضعف مكانة روسيا في الشرق الأوسط فحَسْبُ، بل قد تُخلف أيضاً تأثيراً سلبياً عميقاً على نفوذها في إفريقيا.
لقد كان قرار الكرملين بعدم إعادة نشر مرتزقة فيلق إفريقيا التابع له في سوريا خلال الأيام الأخيرة من حكم الأسد يعكس الأهمية الإستراتيجية لإفريقيا بالنسبة لبوتين، لكن في نفس الوقت فإنَّ خسارة طرطوس قد تؤدي إلى تعقيد الدعم اللوجستي للقوات الروسية في إفريقيا بشكل خطير، وقد تؤدي صورة الفشل الروسي في النموذج السوري (فشل إيقاف التمرد ضد النظام) إلى تقويض قوة موسكو الناعمة في القارة الإفريقية، فمع تحطُّم وَهْم القوة الروسية في سوريا بشكل نهائي بدأت الأنظمة الاستبدادية الإفريقية تشكك في قدرة موسكو في أن تكون خط دفاع أخير لها في أوقات الأزمة.
بعد أن نجح الأسد في تحويل مجرى الحرب السورية باستعادة حلب أواخر عام 2016 (بمساعدة روسيا وإيران)، أقامت روسيا شراكة قوية مع قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر، وتدفقت الأسلحة الروسية مثل صواريخ كاليبر وأنظمة الدفاع الجوي بانتسير S1 إلى ليبيا، وتبعتها شركات عسكرية خاصة من مجموعة فاغنر عام 2018.
كانت قدرة روسيا على توريد المواد الحربية والقوات العسكرية إلى ليبيا تعتمد على امتلاك موطئ قدم دائم في سوريا، وكانت قاعدة طرطوس بمثابة مركز رئيسي لإعادة الإمداد وساعدت في صيانة المعدات وتبسيط تناوب قواتها العسكرية إلى ليبيا، كما كان اعتماد موسكو على سوريا نقطة انطلاق جوية أمراً بالغ الأهمية، فلقد سمحت الرحلات الجوية المنتظمة من منطقة اللاذقية الساحلية السورية إلى قواعد حفتر في الخادم والجفرة بنقل سَلِس لطائرات II - 76 وAn - 124 المحملة بالمعدات الحربية والقوات العسكرية إلى المطارات الليبية.
ومع توسُّع الانتشار الإستراتيجي الروسي في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا توسعت الأهمية اللوجستية لسوريا أيضاً، فالتدخل العسكري لمجموعة فاغنر في مالي منذ أواخر عام 2021 والذي كان بمثابة بوابة للانتشار على نطاق أصغر إلى بوركينا فاسو عام 2023 والنيجر عام 2024، اعتمد لوجستياً على القواعد الروسية في سوريا.
وعندما اندلعت الحرب الأهلية في السودان في نيسان/ إبريل 2023 بين قوات الدعم السريع شِبه العسكرية بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي" والقوات المسلحة السودانية (الجيش السوداني بقيادة رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان) سمح التواصل الجوي بين سوريا وليبيا والسودان بنقل صواريخ "أرض جو" روسية إلى قوات الدعم السريع.
وبسبب هذه الروابط بين إستراتيجيات روسيا في سوريا وإفريقيا، تسببت هزيمة الأسد بانتشار حالة من الذعر الجماعي في موسكو، فقد وصف نيكولاي سوخوف Nikolay Sukhov الخبير في شؤون الشرق الأوسط في معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية، وهو مركز أبحاث مقره موسكو، سوريا بأنها "نقطة انطلاق إلى إفريقيا" في مقال نُشر في آب/ أغسطس 2024، وحذر من أنه دونها قد يكون من الصعب على روسيا تنفيذ رحلات جوية مباشرة منتظمة إلى أماكن نفوذها في الدول الإفريقية.
وفي منشور على تطبيق تيليغرام نُشر في كانون الأول/ ديسمبر 2024 أشاد المحلل العسكري الروسي ألكسندر كوتس Alexander Kots بأهمية طرطوس وحميميم في معركة روسيا ضدّ "العزلة العالمية التي يفرضها الغرب"، وحذّر من أنه إذا "خسرنا هذه المنشآت فإن جميع مشاريعنا في القارة السمراء ستكون عُرْضة، إنْ لم يكن لتقليصها، فلإعادة النظر فيها على الأقل."
سيكون هذا السيناريو الكارثي ضاراً بالاقتصاد الحربي الروسي الذي أصبح هشاً بشكل متزايد، فقد وفرت احتياطيات الذهب في السودان ومالي، والألماس من جمهورية إفريقيا الوسطى، مبالغَ وفيرة بالقطع الأجنبي لتعزيز عملية غزو روسيا لأوكرانيا، وخلال فترة التحضير المباشرة وما تلاها من غزو روسيا لأوكرانيا في شباط/ فبراير 2022 نُقلت على الأقل 16 طائرة محملة بالذهب من السودان إلى روسيا عَبْر سوريا، ودون استخدام سوريا نقطة عبور لتنفيذ عمليات استخراج الذهب والمعادن والأحجار الثمينة، قد ترتفع تكلفة تهريب هذه المواد إلى روسيا بشكل حادّ، وإذا تراجع الوجود الأمني الروسي، فقد يتلاشى الزخم التجاري الذي أدى إلى تحقيق رقم قياسي بلغ 24.5 مليار دولار في التجارة مع إفريقيا عام 2023.
إن التعامل مع السلطات السورية الجديدة هو الإستراتيجية المُثْلَى لروسيا لمنع هذه النتيجة، وعلى الرغم من انتقاد هيئة تحرير الشام باعتبارها منظمة إرهابية حتى هروب الأسد من دمشق إلى موسكو، أكد نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2024 أن الكرملين يتفاوض مع هيئة تحرير الشام بشأن الوصول إلى القواعد والتعاون في مكافحة "الإرهاب الدولي".
في هذا السياق فإنه من المفيد وجود صفقة تُتيح لروسيا التصويت لرفع العقوبات الأممية المتعلقة بالإرهاب عن هيئة تحرير الشام مقابل الاحتفاظ بمنشآتها، لكن في المقابل فإن الهيئة وعلى الرغم من أن خطابها كان في البداية أكثر حدّة تجاه إيران مقارنة بروسيا، فإنها قد تستغلّ ورقة الوصول إلى القواعد للحصول على تعويضات من موسكو، فوجود شرط صعب كهذا سيكون موضع ترحيب بين السوريين الذين هللوا لرحيل القوات الروسية، محملين الكرملين مسؤولية جزء كبير من الدمار الذي شهده العقد الماضي من الحرب، ولكن إذا ثبت أن عبء جرائم الحرب الروسية السابقة في سوريا وتحالفها مع الأسد يشكلان عائقاً كبيراً أمام التوصل إلى اتفاق بشأن القاعدة، فإن البدائل المتاحة أمام الكرملين ستكون غير مريحة، فقد تحاول روسيا تحويل شرق ليبيا إلى المحور اللوجستي لإستراتيجيتها في إفريقيا.
منذ طرح الرئيس الليبي السابق معمر القذافي فكرة بناء منشأة روسية في بنغازي خلال زيارة قام بها إلى روسيا عام 2008، تطلع الكرملين إلى ترسيخ موطئ قدم عسكري على الجزء الشرقي من ساحل ليبيا على البحر الأبيض المتوسط، وقد أدى اتفاق دفاعي عام 2023 بين روسيا والجيش الوطني الليبي، والذي تم التوصل إليه بعد لقاء حفتر مع بوتين في موسكو، إلى إحياء التكهنات حول بناء قاعدة روسية في طبرق.
وعلى الرغم من تداول هذه الاحتمالات فإن هناك العديد من العقبات العملية التي تَحُول دون اعتماد ليبيا بديلاً عن سوريا لإعادة إمداد القوات الروسية في إفريقيا، فقد زعمت قناة ريبار Rybar على تطبيق تيليغرام مؤخراً أن طائرات الشحن الفارغة فقط هي القادرة على قطع المسافة الأطول من روسيا إلى ليبيا دون إعادة التزود بالوقود، وأن المركبات المحملة الثقيلة ستتطلب توقفات متعددة للقيام بهذه الرحلة، وخلصت القناة إلى أن فكرة "عمليات الإمداد في إفريقيا عَبْر ليبيا مكلفة للغاية وغير مستقرة"، كما أن حالة الغموض المتعلقة بتوازُن القوى في ليبيا على المدى الطويل تقوّض من جاذبية ليبيا لتكون موقع قاعدة، فإذا ما تمكن المنافسون السياسيون من طرد حفتر من طبرق، أو إذا تقدمت الأمور في ليبيا نحو المصالحة الوطنية والانتخابات الحرة، فقد تجد روسيا نفسها في مأزق.
كذلك فإنَّه من غير المرجَّح أن يحلّ ساحل السودان على البحر الأحمر مَحَلّ سوريا باعتباره مركزاً لوجستياً روسياً، فمنذ وقّع رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين Mikhail Mishustin على مسودة اتفاق مع الخرطوم عام 2020 بشأن بناء "مركز دعم لوجستي" في بورتسودان، لم يتم إحراز أيّ تقدُّم ملموس هناك، كما منع انتقال السودان المحبط إلى الحكم المدني الموافقة البرلمانية على اتفاقية القاعدة، وأدت الحرب الأهلية المستمرة إلى توقف المشروع إلى أجل غير مسمى.
وحتى لو كان رئيس الأركان السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان مدفوعاً بحاجته إلى الذخيرة وقطع غيار الطائرات لمنح روسيا صفقة الأسلحة مقابل القاعدة، فإن سعة التخزين في طرطوس لن يتم تعويضها بالكامل، ولن تتمكن روسيا إلا من نشر ما يصل إلى 4 سفن بحرية في بورتسودان مقارنة بـ 11 في طرطوس، وستكون عملية التزود بالوقود أقل كفاءة بكثير.
وبعيداً عن هذه العقبات اللوجستية، فقد تعرضت قدرة روسيا على تسويق نفسها على أنها مزوّد للأمن للدول الإفريقية الهشّة لضربة شديدة، فرغم أن أغلب الضربات الجوية الروسية في سوريا استهدفت فصائل المعارضة والمناطق المدنية، إلا أن الكرملين قام بتصوير تدخُّله العسكري باعتباره انتصاراً حاسماً في مكافحة الإرهاب ضدّ تنظيم داعش.
لقد تحقق هذا الانتصار المزعوم من خلال دعم الهياكل الحكومية القائمة، وهو ما يتناقض مع الترويج للديمقراطية بقوة السلاح الذي رافق حملات مكافحة الإرهاب التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك أصبح ما يسمى بالنموذج الروسي لمكافحة التمرد في سوريا، والذي يتجاهل حقوق الإنسان ويرى في الاستقرار السلطوي علاجاً للتطرف، نقطة إقناع رئيسية لشركائها الأمنيين المحتملين في منطقة جنوب الصحراء في إفريقيا، وقد صدّق العديد من المسؤولين الأفارقة هذه الدعاية، فخلال اجتماعه مع بوتين في روسيا عام 2017 أشاد الرئيس السوداني آنذاك عمر البشير بالتدخل الحاسم لصالح الأسد وطلب من روسيا "الحماية من الأعمال العدوانية للولايات المتحدة".
ولحشد الدعم لاتفاقية التعاون العسكري مع موسكو قبل قمة روسيا وإفريقيا عام 2019 في سوتشي، أعرب السفير النيجيري لدى روسيا ستيف أوجبا Steve Ugbah عن أمله في أن تساعد روسيا نيجيريا في سحق تنظيم بوكو حرام، كما سهّلت هذه المشاعر دخول روسيا عسكرياً إلى مالي، ففي الأشهر التي سبقت الانقلاب العسكري في مالي في آب/ أغسطس 2020 والذي سمح للدكتاتورية العسكرية بالسيطرة على البلاد احتج النشطاء المناهضون للغرب على عدم فعالية سياسات مكافحة الإرهاب التي تروج لها فرنسا والأمم المتحدة، وتم تقديم روسيا على أنها منقذ مالي، وسُمع هتاف "ساعدونا مثلما ساعدتم سوريا" في شوارع باماكو (عاصمة مالي).
لقد كانت صورة القوة العسكرية الروسية في سوريا بمثابة مثال مضادّ ضروري لتحسين صورتها نتيجة لما تواجهه في أوكرانيا، كما أنها أقنعت العملاء الأفارقة بالاستمرار في دعمها، حتى مع النتائج المخيبة للآمال التي حققتها عملياتها العسكرية في ليبيا ومالي، ولكن في الوقت الذي بدأت روسيا فيه بتسويق نفسها كشريك أمني للدول التي تعاني من الهشاشة الشديدة في غرب ووسط إفريقيا، بدا سجلّها الأخير في سوريا أقل جاذبية مما يوحي به خطابها المليء بالتفاخر.
وحتى لو لم تُدِرْ إفريقيا ظهرها لروسيا، فإن سقوط الأسد أجبر الكرملين على الاعتراف ببعض الحقائق المؤلمة حول قدرته على فرض قوته العسكرية في المسارح العالمية، وقد كتب رسلان بوخوف Ruslan Pukhov الخبير في مركز تحليل الإستراتيجيات والتكنولوجيا، وهو مركز أبحاث دفاعي روسي رائد: إن "موسكو لا تملك قوات عسكرية ومواردَ ونفوذاً وسلطة كافية للتدخل القسري الفعّال خارج الاتحاد السوفياتي السابق، ولا يمكنها أن تتصرف هناك بشكل فاعل إلا بإذن من قُوًى عظمى أخرى، ولمدى تسمح به تلك القوى العظمى".
قد يشجع هذا السيناريو روسيا على التركيز بشكل أكبر على القوة الناعمة والحرب الهجينة في صراعها على النفوذ في إفريقيا، ففي المناطق التي تتمركز فيها القوات الروسية مسبقاً يقوم المعلقون الموالون للكرملين بتقييم جدوى التدخُّلات العسكرية الواسعة في تلك الدول النامية، حيث أشار فيودور لوكيانوف Fyodor Lukyanov وهو محرر في مجلة "روسيا في الشؤون العالمية"، بشكل ساخر إلى وصف الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما لروسيا بأنها "قوة إقليمية"، وقال: "لا ينبغي اعتبار هذا الوصف إهانة؛ لأن القوى العالمية تغادر المسارح في معظم مناطق الدول النامية، وبالتالي سيكون تحمُّل عبء النفوذ العسكري ليس صعباً فحَسْبُ، بل أيضاً سيكون مسألة غير ضرورية."
قد تشجع هذه الطريقة في التفكير روسيا على تعزيز شراكاتها مع القوى الإقليمية الإفريقية الرئيسية على أمل أن تتمكن هذه القوى من تنفيذ أوامر موسكو بالوكالة؛ ورغم أن قدرة روسيا على التعامل مع القادة الجُدُد في سوريا لا تزال غير مؤكدة، إلّا أن الإطاحة بالأسد أدت إلى تقليص ثقتها وقدرتها على فرض قوتها في إفريقيا إلى حدّ كبير، والواقع أن التداعيات الجيوسياسية الناجمة عن الأحداث الأخيرة في سوريا تمتدّ إلى ما هو أبعد كثيراً من الشرق الأوسط.
المصدر: مجلة فورين بوليسي (Foreign Policy Magazine)
ترجمة:عبدالحميد فحام