عادت أفكار حركات التحرُّر من الاستعمار وفلسفاتها وتنظيراتها لتنشط من جديد، لكن هذه المرة تُذكِيها وتُحرّض عليها روسيا ومحورها المكوَّن من الدول الديكتاتورية والأنظمة المستبِدّة.
ينطلق بنيامين يونغ (Benjamin R. Young) من حادثة تحريض ممنهجة أدت لأعمال شغب ونزعة إلى الاستقلال في جزيرة "كاليدونيا الجديدة" الخاضعة لحكم "فرنسا"، ويستطرد في تحليل هذا الموضوع بمقاله الذي نشره في مجلة فورين بوليسي (Foreign Policy) ليشرح كيف توظف روسيا في الوقت ذاته الذي تعتدي فيه على أوكرانيا أفكار التحرر والاستقلال لخلق القلق والتمرد في دول إفريقيا وغيرها من بُلدان العالم الثالث، وتُحرّض شعوبها ضدّ الغرب وفي مقدِّمته الولايات المتحدة ودول أوروبا.
نص الترجمة
انتشرت في أيار/ مايو (2024) مظاهرات مؤيِّدة للاستقلال في جميع أنحاء جزيرة "كاليدونيا الجديدة" (Nouvelle Calédonie)، وهي جزيرة صغيرة تقع في المحيط الهادئ خاضعة لحكم فرنسا منذ عام 1853، وقد رفع المتظاهرون أعلام شعب "الكاناك" (Kanak) الأصليين، وكذلك رفعوا علم "جبهة التحرير الوطني الاشتراكية" (Socialist National Liberation Front) المؤيدة للاستقلال، ونزلوا إلى الشوارع احتجاجاً على إصلاحات انتخابية تهدف إلى منح قوة سياسية أكبر للأوروبيين الوافدين حديثاً.
بدَا من الغريب أنهم رفعوا أيضاً علم "أذربيجان"، وبالرغم من تشابُه ألوان علمَيْ "كاليدونيا الجديدة" و"أذربيجان"، إلا أن هناك مَن تكهن بأنَّ المتظاهرين ربما رفعوا العلم خطأً عن غير قصد، ولكن مراقبين آخرين وجدوا في رفع علم "أذربيجان" إشارة إلى دعم أيديولوجي من "باكو" (العاصمة الأذرية).
بعد ذلك بفترة وجيزة، اتضح أن رفع أعلام "أذربيجان" لم يكن خطأً، فمنذ آذار/ مارس 2023 عمدت "باكو" إلى دعم حركة الاستقلال في "كاليدونيا الجديدة" بشكل إستراتيجي تحت ستار التضامن في مناهضة الاستعمار، ضمن ردّ الفعل على الدعم الدبلوماسي الفرنسي لـ "أرمينيا" بعد غزو "أذربيجان" لإقليم "ناغورنو كاراباخ" (Nagorno-Karabakh) عام 2020، وقد قامت "باكو" بنشر معلومات مضلّلة مناهضة لـ "فرنسا" تتعلق بـ "كاليدونيا الجديدة"، وبعد اندلاع الاحتجاجات في أيار/ مايو، اتهمت "فرنسا" علناً "أذربيجان" بالضلوع في ذلك.
لقد نجحت حملة التأثير التي شنتها "باكو" في تأجيج العداوات القديمة تجاه أحفاد الفرنسيين في "كاليدونيا الجديدة"، مما أدى إلى اندلاع مظاهرات عنيفة وأعمال شغب، وقد دفع هذا التصعيد الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" إلى زيارة المنطقة (الجزيرة)، بالإضافة إلى قيامه بإرسال قوات الشرطة الفرنسية، رغم أنه قام في نهاية المطاف بتعليق الإصلاحاتبشكل فعلي (تعهد الرئيس الفرنسي بعدم إدخال الإصلاحات الانتخابية حيّز التنفيذ، وهي تعديلات دستورية أثارت الغضب الشعبي وسبّبت أعمال شغب).
إنَّ الحادثة في "كاليدونيا الجديدة" ليست حالة فريدة، فقد عادت بقوة الأفكار المناهضة للاستعمار، والتي كانت قد برزت بشكل كبير في الستينيات والسبعينيات (من القرن الماضي)، ولا تزال أُسُسها الفلسفية والنظرية تتسبَّب في استمرار بعض أكبر الأزمات الجيوسياسية اليوم في العالم، مثل غزّة وأوكرانيا وصراعات أخرى، ولكن على عكس حركات إنهاء الاستعمار في حِقْبة الحرب الباردة، فإن هذه الموجة تقودها أنظمة انتهازية غير ليبرالية، تستغلّ الخطاب المناهض للاستعمار من أجل تحقيق أجنداتها الجيوسياسية الخاصة، وبشكل يتناقض مع طبيعة تلك الأنظمة التي تهدف إلى فرض سيطرتها على الأراضي بأسلوب استعماري.
إن أهداف حركة إنهاء الاستعمار خلال الحرب الباردة كانت ذات شِقَّيْنِ أساسيين، هما: تحقيق الاستقلال الوطني للدول التي استعمرها الغرب، والحفاظ على السيادة للدول التي تخلصت من الاستعمار في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، سواء من خلال النضال المسلح أو الدبلوماسية المرتبطة بأيديولوجيا كل دولة، وقد ركزت هذه الحركة على إنهاء حرب "فيتنام" ومحاربة حكم الأقلية البيضاء في "جنوب إفريقيا"، وسرعان ما أصبحت محور التوجُّه اليساري على مستوى العالم.
وعلى الرغم من التباين في وجهات النظر فيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية، إلا أنَّ أنصار هذه الحركة أجمعوا على اعتقاد مركزي يفيد بأنَّ الإمبريالية الغربية، وخاصة النسخة الأمريكية منها، كانت العامل الوحيد الذي يعوق التقدُّم والتطوير فيما كان يُعرَف بالعالم الثالث، وتجاهل هذا الاعتقاد حقيقة أنَّ العديد من الحركات المناهضة للاستعمار كانت تعاني من مشكلات داخلية مثل الفساد وسُوء الإدارة، ومع ذلك وبسبب إحباطهم من تاريخ الغرب الإمبريالي فقد تبنى العديد من اليساريين قادة (معادين للغرب)، حتى وإنْ كانوا مستبدّين، مثل "روبرت موغابي" (Robert Mugabe) وهو مناضل ضد الاستعمار تحول إلى دكتاتور في "زيمبابوي"، وحتى "كيم إيل سونغ" (Kim Il Sung) الزعيم السابق لـ "كوريا الشمالية".
اليوم لم يَعُدْ هدف حركة مناهضة الاستعمار تحقيق الاستقلال لباقي المستعمرات القليلة، أو مناقشة المسار التنموي الصحيح لدول الجنوب العالمي، بل أصبحت الحركة الحالية إلى حدّ كبير "حصان طروادة" لتعزيز الاستبداد العالمي، وإعادة النظر في النظام الدولي الحالي، وتدعم ذلك مؤسسات إعلامية حكومية قوية في عواصم دول تحكمها أنظمة مستبِدّة.
لقد قامت الأنظمة المستبِدّة في منطقة أوراسيا بنقل عمليات التأثير الخاصة بها إلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تأمل في إبراز المظالم، وربما تحويلها إلى صراعات فعلية، لصرف انتباه "واشنطن" وحلفائها عن المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية، وهذا هو الحال ليس فقط بالنسبة لـ "أذربيجان"، ولكن أيضاً بالنسبة لـ "الصين" في جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا، وكذلك بالنسبة إلى "إيران"، التي تقدم الدعم المالي لمجموعات احتجاجية مناهضة لـ "إسرائيل" في "الولايات المتحدة".
ولكن "روسيا" تسعى أكثر من أيّ بلد آخر للاستفادة من موجة مناهضة الاستعمار المتجدِّدة، وتقديم نفسها على أنها صوت رئيسي للتحرر والاستقلال في دول الجنوب العالمي، حيث تصف القيادة الروسية نفسها بأنها في طليعة "الغالبية العالمية"، وتدعي أنَّها تقود "عملية النضال لبناء عالم متعدِّد الأقطاب يكون أكثر عدلاً".
وقد كتب "بوتين" في الصحيفة الرئيسية في "كوريا الشمالية" بعد زيارته لعاصمتها "بيونغ يانغ" (Pyongyang) في حزيران/ يونيو 2024، "إن الولايات المتحدة تسعى إلى فرض ديكتاتورية استعمارية عالمية جديدة على العالم"، في المقابل جرى توجيه العديد من الاتهامات في "الولايات المتحدة" لعدد من الروس على أنهم عملاء استخبارات يقومون بتقديم دعم مالي لمجموعة اشتراكية من "ذوي البشرة السمراء" مناهضة للاستعمار، لتعزيز الروايات المؤيدة لروسيا وتبرير الإجراءات العسكرية الروسية غير القانونية في أوكرانيا. وفيما يتعلق بـ "كاليدونيا الجديدة" فقد قامت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية "ماريا زاخاروفا" (Maria Zakharova) بتأجيج الوضع عندما قالت في أيار/ مايو 2024: "إن التوتُّرات هناك ناتجة عن عدم الحسم في عملية إنهاء الاستعمار".
المصدر: مجلة فورين بوليسي (Foreign Policy)