مقدمة: المشهد الجيوسياسي الإفريقي المعاصر
أصبحت إفريقيا في العقد الأخير مسرحاً مركزياً للتنافس الجيوسياسي بين القُوى العالمية، ولا سيما روسيا والدول الغربية. هذا التنافس لم يَعُدْ يدور فقط حول الموارد الطبيعية أو النفوذ السياسي، بل امتد ليشمل إعادة هندسة النسيج الاجتماعي والإثني داخل الدول الإفريقية، فالقارة التي تضم أكثر من 3,000 جماعة إثنية، تشهد تصاعُداً خطيراً في استغلال التوترات العِرْقية، التي يُعاد تدويرها وتغذيتها من الخارج لخدمة أهداف إستراتيجية وعسكرية واقتصادية.
والانقسامات الإثنية في إفريقيا ليست جديدة، لكنها لم تَعُدْ تُعَدّ مجرد رواسب استعمارية أو مظاهر ضعف للدولة الوطنية، بل تحوّلت إلى أدوات في "صراع الوكالة" بين القوى العظمى. تعمل روسيا والدول الغربية على إعادة صياغة خارطة النفوذ من خلال الدخول في تحالفات مع جماعات إثنية، أو دعم ميليشيات متمركزة في مناطق معينة، غالباً ما تُحدَّد ولاءاتها بناءً على الهُوِيّة الإثنية أو الدينية، كما أن تحويل الهُوِيات الإثنية إلى أدوات سياسية بات يُشكّل أحد أبرز مظاهر عسكرة الصراعات في القارة، مما أدى إلى تعميق الاستقطاب المجتمعي ونسف مسارات المصالحة الوطنية.
جمهورية إفريقيا الوسطى: ساحة تجريبية لنفوذ روسي متجذّر
تُعدّ جمهورية إفريقيا الوسطى واحدة من أبرز الأمثلة على كيفية استغلال الانقسام الإثني والديني في سياق التنافس الدولي. فالدولة التي عانت من هشاشة مزمنة في مؤسساتها منذ استقلالها عام 1960، شهدت منذ عام 2013 انهياراً شِبه كامل في السلطة المركزية، بعد الإطاحة بالرئيس فرانسوا بوزيزي François Bozizé على يد تحالف "سيليكا" Séléka ذي الغالبية المسلمة، وما تلاه من تشكيل ميليشيا "أنتي بالاكا" Anti-Balaka المسيحية المعادية لها، ما أدخل البلاد في دوامة حرب أهلية.
في هذا السياق، تدخلت روسيا كطرف فاعل في المعادلة. فبعد توقيع اتفاق تعاون عسكري في 2017، شرعت موسكو في إرسال مستشارين عسكريين ومعدات، إلى جانب عناصر من مجموعة فاغنر، التي يُعتقد أنها تلعب دوراً مزدوجاً في دعم الحكومة وتنفيذ عمليات أمنية واقتصادية مستقلة. وقد تمكّنت روسيا من إعادة هندسة موازين القوة على الأرض عبر خلق خطوط تماسّ جديدة مبنية على الانقسام الإثني والديني، وهو ما منحها نفوذاً لم تحظَ به أي قوة خارجية منذ عقود.
لقد كان دور مجموعة فاغنر الروسية بارزاً من خلال تورُّطها في ممارسات عنف مروّعة ضد المدنيين، شملت الاغتصاب الممنهج والتعذيب، لا سيما في مناطق الشمال ذات الغالبية المسلمة، ما أدى لتأجيج المشاعر الطائفية وإعادة إنتاج مناخ الحرب الأهلية.
في المقابل، لم تُقدِم الدول الغربية -وعلى رأسها فرنسا والولايات المتحدة- على تقديم بدائل قوية، بل جاءت تحرُّكاتها متأخرة ومحدودة. فالوجود الفرنسي التقليدي تراجع بشكل ملحوظ بعد قرار باريس بسحب قواتها عام 2021، في حين اكتفت الولايات المتحدة بتقديم دعم دبلوماسي وبرامج تنموية عَبْر الوكالة الأمريكية للتنمية (USAID)، من دون أن تقابل التحرك الروسي بتحرك مماثل من حيث التأثير الميداني.
ما وراء دعم الحكومات: صراع على الموارد والرمزية الجيوسياسية
من الواضح أن صراع القُوى في إفريقيا الوسطى لا يدور فقط حول مسألة دعم الحكومة المركزية أو فرض الاستقرار، بل يشمل أهدافاً أعمق ترتبط بثروات البلاد وموضعها في الخريطة الجيوستراتيجية الإفريقية. فروسيا، من خلال فاغنر، تتحكم فعلياً في مناجم الذهب والماس في الشمال، وتستخدم هذا النفوذ كأداة لتمويل عملياتها في مناطق أخرى من إفريقيا كالسودان ومالي.
لقد أصبح النفوذ الروسي في دول إفريقيا عموماً، وفي جمهورية إفريقيا الوسطى خصوصاً، نموذجاً لسياسة الاستغلال الشامل، يقوم على الدعم الأمني مقابل امتيازات اقتصادية وتحكُّم إثني، ما يجعل من هذا البلد مختبراً لتحوُّل طبيعة التدخلات الخارجية من نماذج الدولة الراعية إلى نماذج "الدولة-الشريكة".
خلاصة
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن استغلال الإثنيات لم يَعُدْ نتيجة جانبية للصراعات في إفريقيا، بل أصبح خياراً إستراتيجياً تتبناه قوى عالمية لإعادة تشكيل مناطق النفوذ، وتثبيت وجودها العسكري والسياسي؛ وجمهورية إفريقيا الوسطى تمثل الحالة الأكثر وضوحاً لهذه الظاهرة، فهي دولة منهكة، بمؤسسات ضعيفة، ونسيج اجتماعي ممزق، أصبحت مسرحاً لصراع دولي يتغذى من نار الانقسامات المحلية.
إن استمرار هذا النمط من التدخل الخارجي يحمل تداعيات خطيرة على استقرار القارة ومستقبل بناء الدولة الوطنية، وهنا تبرز أهمية دور الفاعلين الإقليميين والدوليين، خاصة الاتحاد الإفريقي، في الدفع باتجاه نماذج أمن جماعي وتنمية مستدامة تقطع الطريق على القوى التي ترى في الانقسام الإثني وقوداً لمعاركها الجيوسياسية.