توتُّر العلاقات الجزائرية المالية

  • Home
  • توتُّر العلاقات الجزائرية المالية
Cass Banener Image
توتُّر العلاقات الجزائرية المالية

توتُّر العلاقات الجزائرية المالية

السياق التاريخي والمتغيرات الحالية 

تستند العلاقات "الجزائرية-المالية" إلى معطيات جغرافية وتاريخية معقدة، إذ تتقاطع مصالح البلدين في منطقة الساحل والصحراء، وهي منطقة تشهد اضطرابات مزمنة منذ عقود. تشترك الجزائر ومالي بحدود تمتدّ لأكثر من 1,300 كيلومتر، وتاريخ طويل من التداخُلات الثقافية والعرقية، خصوصاً في مناطق الشمال المالي ذات الامتدادات الأمازيغية والطوارقية. 

منذ أزمة شمال مالي عام 2012، عندما سيطرت جماعات انفصالية ومتشددون على مناطق واسعة، لعبت الجزائر دور الوسيط بين المجموعات الانفصالية وحكومة مالي، وتُوِّجت جهودها باتفاق الجزائر عام 2015 بين الحكومة المالية والحركات المسلحة المنضوية ضِمن تحالُف يُعرف باسم "الإطار الإستراتيجي للدفاع عن الشعب الأزوادي" Strategic Framework for the Defense of the People of Azawad CSP-DPA)، وهو تحالف من الحركات السياسية والعسكرية في شمال مالي تم تشكيله في 6 أيار/ مايو 2021، كتحالُف بين تنسيقية حركات أزواد (CMA). لكن الاتفاق تعثر لاحقاً وسط اتهامات للجزائر من أطراف مالية بدعم بعض الحركات الانفصالية، خصوصاً بعد تحوُّل "الإطار الإستراتيجي" إلى "جبهة تحرير أزواد" The National Movement for the Liberation of Azawad or the Azawad National Liberation Movement (MNLA) ذات الخطاب الأكثر حدّة تجاه باماكو (عاصمة مالي). 

التغير الأكبر تَمثَّل في الانقلاب العسكري بقيادة العقيد أسيمي غويتا Assimi Goita عام 2021، والذي أفضى إلى تموضع مالي في المحور الروسي التركي، وقطع علاقاتها مع فرنسا، مما أدى إلى انسحاب القوات الفرنسية من الساحل، وفتح المجال أمام دخول مجموعة "فاغنر" الروسية وتعزيز التعاون العسكري مع أنقرة، وهو ما أثار مخاوف جزائرية من تفاقُم الفوضى على حدودها الجنوبية. 

التحدِّيَات الأمنية المشتركة 

تتقاسم الجزائر ومالي تهديدات أمنية متشابكة، تَتمثَّل في نشاط الجماعات الإرهابية، وتنامي التهريب العابر للحدود (الأسلحة، والبشر، والمخدرات). وتنشط مجموعات مثل "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" Jama'at Nusrat ul-Islam wa al-Muslimin (JNIM) وتنظيم الدولة الإسلامية - ولاية الساحل (Sahil Wilayah) في الصحراء الكبرى على امتداد الحدود، مما يجعل التنسيق الأمني أمراً ضرورياً. 

لكنّ التوتر السياسي بين البلدين، الذي تفاقم باتهام باماكو للجزائر بدعم "جبهة تحرير أزواد"، ألقى بظلاله الثقيلة على جهود التنسيق الأمني، مُهدِّداً بإعادة إنتاج مشهد الانفلات والفوضى في الشريط الحدودي المشترك. 

وقد تحوّلت منطقة كيدال Kidal الحدودية إلى ما يشبه المنطقة الرمادية، حيث تغيب عنها السيطرة الحكومية الفعلية، وتُفتح فيها الأبواب أمام تمدُّد الجماعات المسلحة شمالاً نحو الجنوب الجزائري. وقد جاء حادث إسقاط الطائرة المسيَّرة التابعة للجيش المالي داخل الأراضي الجزائرية ليصبّ الزيت على نار الخلاف، إذ اعتبرته الجزائر انتهاكاً صارخاً لسيادتها، في حين نفت باماكو الحادث بدايةً قبل أن تلوذ بالصمت، ما أدى إلى تصعيد دبلوماسي كشف هشاشة العلاقات بين البلدين في ظرف إقليمي بالغ الحساسية. 

التوتُّرات السياسية والدبلوماسية 

في آذار/ مارس 2024، سحبت عدة دول في مجموعة "تحالُف دول الساحل" (مالي، بوركينا فاسو، النيجر) سفراءها من الجزائر، بعد تصاعُد الخلافات بشأن الوساطة الجزائرية في الأزمة المالية، واتهامات باماكو بدعم الجزائر للحركات المسلحة، إضافة إلى تحفُّظ الدول الثلاث على مواقف الجزائر من علاقاتها مع فرنسا. 

وقد جاء ذلك بعد خُطوات جزائرية اعتُبرت "استفزازية" من قِبل باماكو، مثل استضافة وفود من الحركات الأزوادية في الجزائر العاصمة، وتقديم دعم غير مُعلَن لآليات التفاوض التي ترفضها الحكومة المالية العسكرية. 

التوتر يعكس أيضاً الاصطفاف الدولي والإقليمي في المنطقة: الجزائر تميل إلى التوازن بين موسكو وباريس، لكنها تنظر بقلق إلى التغلغل الروسي غير المنضبط عَبْر "فاغنر"، والذي ترى فيه تهديداً لاستقرارها، بخلاف باماكو التي ترى في موسكو شريكاً إستراتيجياً في إعادة بناء الجيش المالي ومكافحة الإرهاب. 

آفاق التعاون ومستقبل العلاقة 

بالرغم من التوتُّرات السياسية المتصاعدة بين الجزائر ومالي، فإن علاقاتهما تظل محكومة بضرورات الجغرافيا ومقتضيات الأمن الإقليمي. تدرك باماكو أن الجزائر تظل الفاعل الإقليمي الأقدر على تسهيل التسويات مع الحركات المسلحة في الشمال، فيما ترى الجزائر في استقرار مالي ضمانة حيوية لمنع تمدُّد الإرهاب إلى عمقها الجنوبي. هذه العلاقة المتبادلة، رغم تعقيداتها، تفرض نوعاً من التوازُن الحَذِر الذي يصعب كسره دون كلفة إستراتيجية على الطرفين. 

وقد حذّرت تقارير صادرة عن معهد بروكينغز والمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية من أنّ أيّ مسار تصعيدي بين البلدين قد يفتح الباب أمام فراغ أمني خطير، تستفيد منه الجماعات المسلحة المنتشرة في منطقة الساحل. هذا الواقع يحتم على الطرفين تجاوُز الخلافات السياسية الظرفية، والعمل على إعادة تفعيل قنوات التنسيق الأمني والعسكري بصورة مرنة وواقعية، تراعي حساسية المرحلة وطبيعة التهديدات المشتركة. 

غير أن المعادلة باتت أكثر تعقيداً في ظلّ تشكُّل اصطفافات جيوسياسية جديدة في الإقليم، أبرزها محور "غويتا–فاغنر–أنقرة"، في مواجهة محور "الجزائر–النيجر–موريتانيا". هذا الاستقطاب المتزايد، في سياق سباق دولي محموم للهيمنة على مقدَّرات المنطقة الغنية بالذهب واليورانيوم والمعادن النادرة، يضيف طبقة أخرى من التحدِّيَات على أيّ محاولة لإعادة بناء الثقة بين الجزائر ومالي. 

في هذا السياق، يبرز الرهان المستقبلي على قدرة الجزائر على إعادة صياغة دورها كوسيط نزيه، يأخذ بعين الاعتبار السيادة المالية، ويعيد تقييم موقفه من الحركات الأزوادية التي لم تَعُدْ تَحظَى بالإجماع الدولي ذاته كما في السابق. كما أن الجزائر مطالَبة بتجديد أدواتها الدبلوماسية بعيداً عن حسابات النفوذ الإقليمي التقليدية، والانفتاح على آليات بديلة لبناء الثقة، قد تمر عَبْر وسيط ثالث كالاتحاد الإفريقي أو بعض دول الساحل التي لم تنخرط بشكل مباشر في النزاع. 

خاتمة 

العلاقات الجزائرية المالية تُمثل نموذجاً تقليدياً لتقاطُع الجغرافيا بالتاريخ، والمصالح بالأزمات، وبينما تُحتّم التحديات الأمنية استمرار التواصل بين البلدين، فإن التغيرات المتسارعة في موازين القُوى الإقليمية تفرض على الجزائر إعادة ضبط أدواتها الإستراتيجية. فإما أن تنجح في استعادة دورها التقليدي كفاعل إقليمي مركزي، عَبْر توظيف نفوذها السياسي والمجتمعي، أو أن تستمر مالي في إعادة تشكيل تحالُفاتها بعيداً عن المحور الجزائري. وفي جميع السيناريوهات، تبقى الحاجة ماسّة إلى رؤية جماعية قائمة على الأمن المشترك والتنمية المستدامة كأساس لأيّ استقرار ممكن في منطقة الساحل. 

 



Related posts
Switzerland Refuses to Accredit Tunisia’s Pick for Ambassador
Failed Coup Reveals Benin’s Fragility